مظاهر فتنة نقص العلم
صفحة 2 من اصل 1
مظاهر فتنة نقص العلم
الناس في فهم دين الله والعمل به والانتفاع به ثلاثة أصناف ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث التالي:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"مثل ما بعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ و العشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها و سقوا و زرعوا، و أصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء و لا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله و نفعه ما بعثني الله به فعلِم وعلّم، و مثل من لم يرفع بذلك رأسا، و لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"، رواه الشيخان البخاري ومسلم.
ومعنى الحديث مبسطاً: أي الناس على ثلاثة أصناف فالصنف الأول: مثل الأرض تشرب المطر فتنبت الزرع فتستفيد و تفيد غيرها، و الصنف الثاني: مثل الأرض الجدباء (تخيل كالحجر) يبقى عليها الماء و لكن لا تنبت فالناس تأخذ الماء و تستفيد به ولكن الأرض لا تستفيد أي لا يستفيد الشخص بعلمه ولكن يفيد غيره، و الصنف الثالث: مثل الأرض القيعان لا تمسك ماء ولا تنبت نبات (تخيل كالرمل) فلا تستفيد ولا تفيد غيرها، وهذا حال الناس في فهم الهدي النبوي والنور الذي أُنزل معه.
نقص العلم من أعظم الفتن ومن علامات الساعة فما ضل الناس إلا بسبب نقص العلم، وما تاهوا إلا بسبب نقص العلم، وما فُتنوا إلا بسبب نقص العلم.وسنتناول مظاهر فتنة نقص العلم وأسبابها وكيف نستطيع النجاة في زمان نقص العلم.
من أول مظاهر نقص العلم، موت العُلماء، فموت العَالِم مصيبة ما بعدها مصيبة، فمتى مات العالم تصدر الأقل علماً فالأقل فالأقل حتى يتصدر الجُهال.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العُلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"، حديث صحيح رواه الإمام البخاري.
والمعنى أي أن العلم ينقص بوفاة العلماء، ولازالوا يتناقصون حتى إذا جاء زمان مات فيه جميع العلماء أو غالبهم وتناقصوا اتبع الناس الجُهال وسألوهم في أمور دينهم فأفتوا بجهل وغير علم فهم في ضلال ويُضلون غيرهم من الناس.
عن أبي وائل قال: قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أتدري كيف ينقص العلم ؟
قلت: كما يُنفَضُ الثوب، وكما يقسو الدرهم.
قال: "لا، وإن ذلك لمنه، قبض العلم: قبض العلماء".
وقال سيدنا عبد الله بن عباس ، في تفسير قوله تعالى : "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِن ْأ َطْرَافِهَا"، سورة الرعد آية 41 قال: موت علمائها.
و موت العالم كارثة فهو لا يعوض بمثله، قال الإمام الحسن البصري: "موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار".
رحم الله العلماء الأول حين تقرأ سيرهم تتعجب حفظ الإمام الشافعي فقه الإمام مالك كله (موطأ الإمام مالك) حفظاً من الجلدة للجلدة كما يقولون في تسعة أيام وهو ابن عشر سنين ثم ذهب يطلب العلم من الإمام مالك وهو ابن أربعة عشر سنة ! والحفظ أيامهم يعني تسميع كل ما في الكتاب برقم الصفحات مع الفهم طبعا والفهم الصحيح !! فمن فينا قرأ الموطأ ولو مرة في حياته ؟ ومن فينا فهم كل مسائله ؟ ومن فينا يستطيع تسميعه بعد قراءته ! وهو ليس الكتاب الوحيد الذي حفظه الإمام الشافعي فهذا مع غيره من الكتب والتراجم ودروس العلماء بالاضافة طبعاً للقرآن الكريم قبل كل شئ وكثير من السنة النبوية الشريفة، ومع هذا لم يقول الإمام الشافعي على نفسه أنه شيخ الإسلام أو حجة الزمان أو إمام السنة أو أو من المصطلحات السفسطائية التي يقولها جهال أهل هذا الزمان بل كان يقول: "كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي"، والإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله حفظ القرآن، فأتم حفظه وهو دون الثامنة، ثم حفظ بعض الكتب في تلك السن المبكرة مثل العمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك، وغيرها وقدم كثير من الكتب والعلوم خدمة لدين الله تعالى، وغيرهم من العلماء الأجلاء السابقين.
وتجد اليوم مثلاً يقول الناس على رجال الحديث في زماننا المحدث الفلاني وأهل الحديث وإمام السنة، ويظنون أن أهل هذا الزمان هم أعلم الناس بالحديث الشريف! لكنهم لا يعلمون مراتب المحدثين عند السابقين فأعلى مرتبة لأئمة الحديث هي مرتبة أمير المؤمنين في الحديث وهو الذي يكاد لا يخفى عليه شئ من حديث النبي بمتنه وإسناده رواية ودراية وأحوال رجاله وهذه المرتبة لم يحصل عليها غير قليل من الأفذاذ كالتابعي سفيان الثوري والإمام مالك والإمام البخاري والإمام ابن حجر العسقلاني، المرتبة الثانية مرتبة الحاكم: هو من حفظ ثمانمائة ألف حديث متناً وسنداً مع معرفته ما يحتاج إليه من علم الحديث ومعرفته بحال رواتها جرحاً وتعديلاً ورداً وقبولاً، المرتبة الثالثة مرتبة الحجة: وهو من حفظ ثلاثمائة ألف حديث متناً وسنداً ولو بطرق متعددة ووعي ما يحتاج إليه من علوم الحديث، المرتبة الرابعة مرتبة الحافظ : هو من حفظ مائة ألف حديث متناً وسنداً ولو بطرق متعددة ووعي ما يحتاج إليه علم الحديث، المرتبة الخامسة مرتبة المحدِّث: هو الذي اشتغل بالحديث وإعتنى به روايةً ودرايةً وإطلع على كثيرٍ من الرواه والمرويات حتى عُرف عنه ذلك، المرتبة السادسة مرتبة المُسنِد: هو من يروي الحديث بإسناده سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد الرواية وبمعنى آخر المسنِد هو الراوي، وفي زماننا هذا لا يوجد غير المرتبة السادسة والمرتبة الخامسة من أهل الحديث فلا يوجد في زماننا أمير مؤمنين في الحديث ولا حاكم ولا حجة ولا حافظ ويكفي هذا لتوقن أننا في زمان نقص العلم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "عليكم بالعلم قبل أن يُقبض، وقبضه ذهاب أهله، عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يُقبض، أو متى يُفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، والتنطع، والتعمق، وعليكم بالعتيق".
حذر الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، من ترك العلم وترك تحصيله من العلماء فقد يُقبض في أي وقت بقبض العلماء، فإنه لا يدري أحد متى يُقبض العلم بقبض أهله، أو متى يحتاج الناس لما عند الرجل من العلم، فقد يزهد الناس في علم ما لعدم حاجتهم لمعرفته بوقت معين وقد يحتاجون معرفته فيما بعد ولكن يكون العالم قد مات وفات أوان تحصيل العلم، قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: "لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم أو يُعلم الآخر، فإن هلك الأول قبل أن يُعلم أو يتعلم الآخر، هلك الناس".
وحذر كذلك من ثلاثة أمور ونصح بالتمسك بواحدة:
التبدع: تبدَّع الشيء أي أَنشأَه وبدأَه أو أحدثه واخترعه والمراد هنا : الحدث في الدين بعد الإكمال.
التنطع: التكلف والمغالاة في القول أو الفعل.
التعمق: المبالغة في الأمر والتشدد فيه والانشغال بتفاصيل لا تضر ولا تنفع.
العتيق: القديم وما كان عليه الأوائل والمراد التمسك بما كان عليه النبي وأصحابه.
ونأتي لهذه الأربعة فنفصلها:
أولاً التبدع من مظاهر نقص العلم، فالأصل في العادات الحل إلا بنص .. والأصل في العبادات التحريم إلا بنص، وهذه قاعدة فقهية، فمامعنى هذه القاعدة ؟
يعني أي عادة للناس هي حلال إلا لو جاء نص بتحريمها.
مثال: مشاهدة التلفاز حلال إلا لو هناك نص بالتحريم .. ومادام لا يوجد نص مباشر بتحريم مشاهدة التلفاز إذاً هو حلال ويبقى محرم مافيه من الفواحش والاطلاع على العورات والفجور وماجاء نصوص بتحريمه.
مثال آخر: الشرب مثلاً عادة وهو حلال إلا مافيه نص بالتحريم، كشرب الخمر والمسكرات والدم.
بالنسبة للعبادات فالأصل هو التحريم.
مثال: الصيام في غير رمضان مثلاً حرام، إلا بنص مثل النصوص الواردة في صيام الست من شوال والاثنين والخميس من كل أسبوع وثلاثة أيام من كل شهر وصيام التطوع وصيام داوود كل هذا وماورد في النصوص جائز وحلال بنص شرعي ومنهي عن صيام الدهر ومنهي عن الصيام من الظهر للعشاء مثلاً فهذا ابتداع في العبادة غير وارد في الدين.
مثال آخر: الصلاة خمس ركعات مثلاً حرام فهذا غير وارد في الدين، فلا يصح لأحد أن يقول صلاة الثلاثاء مثلاً أو صلاة الساعة التاسعة أو يبتدع صلاة أو أي عبادة ويداوم عليها أو يدعوا الناس لها وهي غير موجودة في الشريعة فهذه بدعة ولا يصح نسبتها للدين.
لو ليس هناك نص بمشروعية العبادة إذاً لا تصح .. فكل بدعة ضلالة.
فالعادات هي ما اعتاده الناس من مأكل ومشرب وملبس وسائر تصرفاتهم باختلاف أزمانهم وأماكنهم.
أما العبادات فهي واردة بنص عن الله أو عن رسوله بصفته مبلغاً عن الله .. ولا يحل الابتداع في العبادة أو تشريع عبادة جديدة لم يرد بها نص في قرآن أو سنة.
ثانياً: التنطع من مظاهر نقص العلم، وهو كثرة السؤال والتشدد، فإن هذا الدين يسر وإنما بعثتم ميسرين لم تبعثوا معسرين، وبعث النبي رحمة لا عذاب وأمته رسالتهم تبليغ رسالة نبيهم رحمة بالناس وشفقة بالعالمين وخوفاً عليهم من عذاب أليم، لا رغبة في قتلهم ولا للتحصل على أموالهم ولا للسيطرة على أراضيهم، وسكت النبي عن أشياء كثيرة رحمة بكم فلا تكونوا كأصحاب البقرة ظلوا يسألون ويعسرون على أنفسهم ولو استجابوا للأمر الأول لكفاهم ذبح أي بقرة، قال تعالى: " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها"، حديث حسن رواه الدارقطني وغيره، وقد أدى النبي الرسالة وبلغ الأمانة ونصح الأمة فالخير فيما أخبر به النبي وبلغ ولا حاجة لنا فيما سكت عنه وترك رحمة غير نسيان وما كان ربُك نسياً.
ثالثاً: التعمق من مظاهر نقص العلم، فيسأل الناس عن تفاصيل لا داعي لها ولا فائدة منها، كقوله تعالى: "سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا" ، فاياً ما كان عددهم هذا لا يثري العبرة من القصة ولا يزيدها ولا ينقصها شيئاً فتجد الواحد ترك العبرة والاستفادة من آيات أهل الكهف وجلس يبحث عن عددهم وشكلهم ومكانهم وصورتهم، أو كأن يسأل أحدهم ما هو رمان الجنة وما لونه وما طعمه وما رائحته؟ وهذا من العلم الذي لا ينفع ولا تصل فيه لشئ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منه فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع".
رابعاً: هو ما نصحنا سيدنا حذيفة خبير الفتن بالتمسك به فقال: عليكم بالعتيق أي القديم من هدي الأوائل السباقين في الإسلام فتعلموا المسائل التي بينها النبي لأصحابه والبينات التي ذكرها لهم، وآثار الصحابة والتابعين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته"، حديث صحيح – رواه الإمام البخاري.
والقرن هو المائة عام، والمقصود خير القرون في الإسلام هو عهد النبي ثم القرن الذي يليه هو قرن الصحابة، ثم قرن التابعين، فهذه القرون الثلاثة هي خير القرون في الإسلام فهم أفقه الناس وأعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله وأقربهم لعهد رسول الله وأفضلهم علما وعملا ثم القرون بعدهم تتناقص في الخير والعلم والعمل والمنزلة عند الله، حتى تأتي قرون يحلف الناس فيها كذبا وزوراً ويتقولون الكذب على الله ورسوله لا يخشون الله ولا يتقوه (طبعاً ذلك لا ينفي وجود بعض الأخيار فيهم ولكن القصد على الغالب، فالغالب في القرون الثلاثة الأولى هم الأخيار والغالب فيما بعدهم هم الأشرار)، وذلك تعرفه من قوله تعالى: "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّات النَّعِيم ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ(13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ"، سورة الواقعة (10-14).
أي أن السابقين المقربين غالبهم من الأوائل في الإسلام ومن القرون السابقة التي آمنت مع الرسل، وقليل منهم يكون من الناس في آخر الزمان.
فنفهم من هذا أن من مظاهر نقص العلم الكذب على الله ورسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم"، حديث صحيح رواه الإمام مسلم، وفي لفظ "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإياكم لا يضلونكم ولا يفتنونكم".
ونفهم أن من مظاهر فتنة نقص العلم شهادة الزور وتبديل دين الله وأحكامه فإن دين الله واحد،
دخل ابن مسعود الأنصاري رضي الله عنه على حذيفة رضي الله عنه فقال: "اعهد إلي" .
فقال حذيفة : "ألم يأتك اليقين؟".
قال : "بلى وعزة ربي" .
قال حذيفة : "فاعلم أن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تُنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله تعالى، فإن دين الله واحد".
و القصد أن الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر أي بالأمس مثلاً كنت تعرف أن الشئ الفلاني حرام و اليوم تعتبره حلالا !! أو أن كنت تعرف بالأمس أن ذلك الشئ حلال واليوم تحرمه، بحسب الأهواء واختلاف المصالح فذاك حق الضلالة، فدين الله واحد لا يتلون ولا يتبع الأهواء ولا يتبدل.
يقول سيدنا عبد الله بن مسعود فقيه الأمة: "من كان منكم مُستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلُفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم".
أما في هذا الزمان وقد قبض العلم وظهر السفهاء فتجدهم ينكرون على السابقين السابقين ويقولون أن تفسيراتهم وفقههم رجعي قديم يحتاج تطوير وتجديد وتحديث ! وأن لدى هؤلاء السفهاء من المتأخرين ما هو أفضل مما كان عند النبي وعند الصحابة وعند التابعين وعند رجال الحديث الشريف!! وأن الله فتح عليهم بمعرفة القرآن كما لم يعرفه النبي ولا الصحابة ولا التابعين ! الذين شهد الله لهم بأنهم السابقون المقربون وشهد النبي صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم خير القرون ! فمن تصدق سفهاء هذا الزمان أم الله ورسوله؟ ووالله هذا قد أخبر به نبي الله وحذر وهو من علامات الساعة.
قال سهل بن عبد اللّه التّستري: "عليكم بالأثر والسُنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذَكر إنسان النبي صلّى الله عليه وسلّم والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرؤوا منه، وأذلوه وأهانوه"، أليس هذا واقع ؟
ومن مظاهر فتنة نقص العلم أخذ العلم من الصغار، الصغار في السن والصغار في العلم.
عن أبي أمية الجمحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن من أشراط الساعة أن يُلتمس العلم عند الأصاغِر"، رواه ابن المبارك في الزهد و الطبراني في المعجم الكبير.
وعن سيدنا عبد الله بن مسعود قال: "إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم في كِباركم، فإذا كان العلم في صغاركم سفّه الصغير الكبير".
و القصد بالصغير الصغير في السن والصغير في العلم.
فتجد اليوم الدعاة صغار السن وصغار العلم متصدرين المشهد وجذبوا حولهم الشباب والأجيال الصاعدة وزينوا لهم القول وجذبوهم لحديثهم وتجدهم يسفهون من الشيوخ الكبار وعلومهم وينتقدون أساليبهم ودعوتهم وهم ليسوا علماء بل دعاة صغار! وشتان الفرق بين العالم والداعية وبين الإمام والخطيب وبين العابد والعالم، فكلنا نحن المسلمين عباد لله وكلنا دعاة إلى الله وبعضنا خطباء في المساجد وليس كلنا أئمة ولا كلنا علماء.
والصغير في العلم فتجد الواحد قرأ كتاباً واحداً و ربما كتيب أو سمع محاضرة ما أو دروس علم قليلة .. فيسميه الناس شيخ و علامة ويغتر هو بذلك فيفتى و يفسر و يجادل و يتطاول على العلماء الكبار وتفسيراتهم وما اتفق عليه علماء الأمة وأجمع عليه السابقون ويتطاول على أهل العلم فتجده يجادل علماء اللغة وعلماء الأصول وعلماء التفسير وعلماء الحديث وهو أصلاً جاهل لا يفقه حتى عنوان العلم الذي يتحدث فيه سفيه بمقاييس أهل العلم، و هذه من أشراط الساعة، وصار الصغير في العلم والسن يسفه الكبير ويتطاول على أعلام الأمة بشهادة الله ورسوله.
ومن مظاهر نقص العلم عودة الجهل علما والعلم جهلا قال الإمام التابعي الشعبي: "لا تقوم الساعة حتى يصير العلم جهلا والجهل علما"، فيفتن الناس بالجهال ويعتبروا سفاهاتهم علماً ويترك الناس العلماء الحق وتفسيراتهم ويعتبروا علومهم وتراثهم جهلاً وهذا من مظاهر نقص العلم واختلال الموازين في آخر الزمان.
كان الإمام الفقيه مالك بن أنس يقول : "لا يؤخذ العلم من أربعة، ويؤخذ ممن سوى ذلك: لا تأخذ من سفيه مُعلن بالسَّفه وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس, إذا جُرِّب ذلك عليه وإن كان لا يُتَّهم أن يكذب على رسول الله, ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يُحَدِّث ".
ومعنى الأثر واضح فلا تأخذ العلم من سفيه مهرج لا حياء عنده ولا وقار، ولا تأخذ العلم من كذاب حتى لو كان لا يكذب في الحديث النبوي الشريف، ولا تأخذ العلم من متبع لهواه، ونركز على النوع الأخير من الأربعة أي لا تأخذ العلم من عابد وخذه من عالم متعلم يفهم العلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"، والعلم يؤخذ من العالم لا يؤخذ من العابد فالفرق كبير بينهما كالفرق بين السماء والأرض .. وقد قال التابعي سيدنا سفيان الثوري: "تعوَّذوا بالله من فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإنَّ فتنتهما فتنة لكل مفتون"، فالعابد الجاهل فتنة لأن الناس تسأله فيفتي لهم بما لا يفقه فيضلوا، والعالم الفاجر فتنة لأن الناس تتبعه وتقلده في فجوره فيضلوا.
ومن مظاهر فتنة نقص العلم عدم العمل به، كأن لا يعمل العالم بعلمه أو أن تطبع المعاصي والذنوب على قلبه فيطفأ نور العلم من صدره، فلا ينتفع بعلمه ولا يفقهه وينساه ولا يستفيد، والفعل يؤثر في الناس أكثر من الكلام وقد قال الإمام عمر بن عبد العزيز: "ادعوا إلى الله وأنتم صامتون" قالوا: كيف ذلك؟ قال: "بأخلاقكم".
فإذا كان العالم يسب ويرتكب المعاصي جهاراً فكيف يستفيد منه الناس أو طلابه ! وكيف يتبعونه حين ينهاهم عن الفواحش وهو يأتيها ! قالوا: ليس المهم أن تعلم إنما الأهم أن تعمل بما تعلم، وقد كان الصحابة لا يحفظون عشر آيات من القرآن الكريم حتى يعملوا بما فيها، وكثير من الصحابة الكرام لم يحفظوا القرآن كاملاً لكنهم كانوا يعملون بما فيه، وإذا لم يعمل العالم و لم يفيده علمه استوى بالجاهل، بل هو أسوأ من الجاهل مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها (أي لم يعملوا بما فيها) كالحمار يحمل أسفاراً.
والعالم الذي لا يعمل بعلمه هو كالأرض الجدباء النوع الثاني من أصناف الناس في طلب العلم، فهو أخذ العلم ولم يستفيد وقد يستفيد به غيره أفضل منه فرُب مُبّلغ أوعى من سامِع، والعالم الذي لا يستفيد بعلمه ولا يعمل به يعاقبه الله بنسيانه.
ومن صور قبض العلم أن يكون العلم على سبيل الثقافة بين الناس على الألسنة وفي المجالس ولا أثر له في حياتهم العملية والعلم حياته في العمل به.
ومن فتنة نقص العلم أخذ العلم من غير أهله، فتأتي لعالم تفسير تسأله في الحديث أو تأتي لعالم فقه تسأله في العقيدة أو تأتي لعالم أصول تسأله في أحوال الرجال أو تأتي لطبيب تسأله في الهندسة، أو تأتي لعالم دين تسأله في السياسة، وقد قال الشيخ الشعراوي رحمه الله: "أتمنى أن يصل الدين إلى أهل السياسة.. ولا يصل أهل الدين إلى السياسة"، والقصد أن يكون خبراء السياسة عارفين بدينهم وبربهم لا أن يصل العباد وعلماء الدين للسياسة لأنهم لا يفقهونها، كأن يصير الطبيب نجاراً فالطبيب لا يفقه بالنجارة وهو خبير بمجاله لكن حبذا لو كان الطبيب عارفاً بربه متقياً له، ولا يجوز لرجل الدين أن يصير طبيباً فسيقتل الناس ويمرضهم بدلاً من أن يشفيهم ويعالجهم لجهله بالطب وهذا ليس من مقاصد الشريعة ولا يصح بحال، وقد قال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني: "من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب"، وهذا والله ماهو كائن، وقد قال بعض السلف: "إن الذي يفتي الناس في كل شئ لمجنون".
ومن مظاهر نقص العلم طلب العلم للدنيا، حتى يُقال فلان عالم وفلان شيخ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار"، رواه الترمذي وغيره، وهذا من علامات الساعة وعلامات الهلاك والخراب، قال سيدنا علي بن أبي طالب: "إذا تُفُقَّه لغير الدين، وتُعلِّم العلم لغير العمل، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة فهذا من علامات هلاك الأمة".
ومن مظاهر نقص العلم عدم نشر العلم، فالعالم الذي لا ينشر علمه ويكتمه ولا يبلغه يعاقبه الله بنسيانه، وقد تجد طلاب العالم لا ينشرون علمه أو طلاب جهال فشلة لا يستفيدون من العالم ولا يفقهون علمه فلا يفيدون غيرهم أو لا يحسنون الفهم فيبلغون علم العالم على غير مراده، فهذا كأنهم أماتوا العالم وهو حي، وقد قيل: "لا ينبغي لمن عنده علم أن يُضيع نفسه"، وتضييع نفسه بنشر علمه في غير أهله فلا يستفيدوا ولا يُفيدوا فكأن العالم ما بلّغ ولا علّم، وقيل: "وضع العلم في غير أهله كمن ينثر الدر بين سارحة الغنم".
ومن مظاهر فتنة نقص العلم مخالطة العلماء للحكام والسلاطين، وسنتحدث عن هذه الفتنة بشئ من التفصيل لوقوعها في زماننا، قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي : "ومن صفات علماء الآخرة أن يكونوا منقبضين عن السلاطين، محترزين عن مخالطتهم"، وروى أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء بإسناده عن جعفر الصادق أنه قال: "الفقهاء أمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا إلى السلاطين فاتهموهم"، والقصد من ذلك أن الحكام يركنون إلى الدنيا ويصيبون ويخطئون كثيرا فلا يصح للعلماء التقرب إليهم ومهادنتهم بقصد قبول رضا السلطان حتى يحصلوا على المال ومتاع الدنيا بذلك، ومتى اختلط العالم بالحاكم صارت فتاويه تابعة لهوى السلطان ونافق الحاكم وخسر علمه، أما إذا كان العالم ناصحاً أميناً للسلطان -وفق الآداب الشرعية- مرشداً له أو منكراً عليه بالحق مذكر له بربه لا يطلب منه دنيا ولا حاجة له فيما عنده، فهذا لا شك خير وخاصة إذا تقبل الحاكم النصيحة، لكن عليه أن يحذر وأن يتبع الحق ولا يكثر من مخالطة الحكام لأنه قد يفتتن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد عبد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بُعدا "، رواه الإمام أحمد، وقال حذيفة رضي الله عنه: إياكم ومواقف الفتن قيل : وما هي ؟ قال : "أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه"، فقد يخشى القريب من الحاكم قول الحق حتى لا يؤذيه الحاكم أو قد تصير إليه فاقة فيحتاج لما عند السلطان فينافقه أو غير ذلك من أبواب الفتن التي تفتح بصحبته للحكام، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إن الرجل ليدخل على ذي سلطان ومعه دينه فيخرج وما معه دينه"، قيل وكيف ذلك؟ قال: "يُرضيه بما يُسخِط الله".
وصدق الشاعر حيث قال:
إن المُلوك بلاءٌ حيثُما حَلُّوا فلا يكن لك في أفنائهم ظِل.
وما تُريد بقومٍ إن هم سخطوا جاروا عليك وإن أرْضَيتهُم مَلُو.
وإن مدحتهم ظنوك تخدعَهم واستثقلوك كما يُستثقل الكل.
فاستغن بالله عن أبوابهم أبداً إن الوقوف على أبوابهم ذُل.
وقال ابن عبد البر : في كتاب بهجة المجالس يقال : "شر الأمراء أبعدهم من العلماء وشر العلماء أقربهم من الأمراء".
والقصد أي شر الحكام هم الذين لا يستشيرون العلماء ولا يوقروهم ولا يأخذون بعلمهم وشورتهم، كما أن شر العلماء هم الذي يتقربون للحكام ويداهنوهم ويقفون على أبوابهم، والصواب هو الوسط أن يتخذ الحكام من العلماء مستشارين وآمرين بالمعروف وأن ينصح العلماء الحكام وفق الآداب الشرعية بالحق دون حاجة فيما عندهم ومع الحرص والحذر وبحسب حال الحكام.
قال ميمون بن مهران رضي الله عنه: "في صحبة السلطان خطر، إن أطعته خاطرت بدينك، وإن عصيته خاطرت بنفسك، والسلامة أن لا يعرفك".
وعن الفضيل بن عياض رحمه الله قال: "لو أن رجلا لا يخالط هؤلاء –يعني السلاطين– ولا يزيد على الفرائض فهو أفضل من رجل يخالط السلطان ويصوم النهار ويقوم بالليل ويحج ويجاهد، وما أقبح عالماً يُسأل عنه أين هو؟ فيقولوا عند الأمير".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ليس شيء أضر بهذه الأمة من ثلاث: حب الدينار والدرهم، وحب الرياسة، وإتيان باب السلطان، وقد جعل الله منهن مخرجا".
قيل لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على السلطان فنتكلم بالكلام، فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه، قال: "كنا نعدها من النفاق".
وعن سفيان الثوري رحمه الله قال : "إذا رأيت القارئ يلوذ بالسلطان فاعلم أنه لص، وإن لاذ بالأغنياء فمراء، وإياك أن تُخدع فيقال : لعلك ترد عن مظلمة أو تدفع عن مظلوم ، فإن هذه خدعة من إبليس اتخذها فجاز القراء سلما" .
قال الحسن البصري: "لا تزال يد الله على هذه الأمة ما لم يعظم أبرارهم فجارهم، وما لم يرفق خيارهم بشرارهم، وما لم يمل قراؤهم إلى أمرائهم، فإن فعلوا ذلك رفع الله عنهم البركة، وسلط عليهم جبابرتهم وقذف في قلوبهم الرعب، وأنزل عليهم الفاقة".
وقال الشاعر:
أرى الملوك بأدنى الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدون.
فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما استغنى ... الملوك بدُنياهم عن الدين.
(غالب هذه الآثار من كتاب تنبيه الغافلين - باب مخالطة السلطان).
ومن مظاهر نقص العلم زلات العلماء، عن زياد بن حدير قال : قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قال : قلت : لا. قال : "يهدمه زلة العالم وجدال المُنافق بالكتاب وحُكم الأئمة المضلين"، رواه الدرامي، فالعالم يكون له تاريخ طويل في تحصيل العلم ونشره ونفع الناس ثم يُخطئ في مسألة أو موقف أو يكبر سنه فيخرف وينسى أو يرتكب معصية تنتشر بين الناس فيترك الناس على إثر ذلك سائر علمه، والناس ليس عندها إنصاف فإما يأخذون العالم بكل ماجاء به أو يتركونه بكل ماجاء به وهذا من مظاهر فتنة نقص العلم وانتشار الجهل فالحق لا يُعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله، بمعنى احرص على معرفة الحق أولاً فمن قال الحق اتبع الحق الذي يقوله ولا تتبعه لشخصه، فإن قال باطل اترك الباطل الذي يقوله لا تتركه لشخصه، وخذ الحق من أياً من كان واترك الباطل من أياً من كان، وقد صدّق النبي قول الشيطان فقال لأبي هريرة: صدقك وهو كذوب، فلو قال الشيطان لا إله إلا الله هل ستكذبه لأنه شيطان ؟ بل ستقول صدقت وأنت كذوب، ولو كذب صالح أو طالح فلا تصدق كذبه فالحق أحق أن يتبع.
فكيف تعرف الحق حتى تستطيع تمييز الرجال ؟ هذا لا يتحصل إلا بالإيمان وطلب العلم والتقرب إلى الله وترك المعاصي وفهم القرآن وتدبر آياته والعلم بالسنة النبوية وتفسير النبي لكلام الله فقد أرسل الله نبيه ليبين رسالته للناس، فلا تظن أن هناك من هو أعلم من النبي بمراد كتاب الله فهو سيد الخلق الذي اختاره الله ليبين للناس المقصود من رسالته، وأن تسأل الله أن يهديك لنوره وييسير لك فهم آياته وأن يفقهك في الدين ويعلمك التأويل وأن يزيدك علما.
ومن مظاهر نقص العلم حفظ القرآن وقراءته دون فهمه وقبل أن تتشرب القلوب الإيمان، قال سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "إنا كنا قوماً آمنا قبل أن نقرأ، وإن قوماً سيقرءون قبل أن يؤمنوا".
يقصد قراءة القرآن فهدي الصحابة كان الإيمان والإسلام والتسليم أولاً حتى إذا تشربت قلوبهم الإيمان والتصديق بالله وكتبه ورسله وملائكته والقدر خيره وشره بدأوا في قراءة القرآن وتدبره فيفهمون القرآن بناء على قواعد الإسلام والإيمان الثابتة في قلوبهم وعقولهم، فيعملون بما فيه ويفسرونه وفق هدي الإيمان أما الآن فقد صار ما أخبر به سيدنا حذيفة فالقوم يقرأون القرآن ويحفظونه ويتباهون ويتسابقون في ذلك قبل أن يدخل الإيمان قلوبهم فيفهمونه على غير مقصوده و يؤلونه في غير موضعه فضلوا و أضلوا.
يقول الإمام الحسن البصري: "والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل".
يقول ابن أبي شيبة في مصنفه (كتاب الفتن): حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا الصلت بن بهرام قال أخبرنا المنذر بن هوذة عن خرشة أن حذيفة دخل المسجد، فمر على قوم يقرئ بعضهم بعضا، فقال: إن تكونوا على الطريقة، لقد سبقتم سبقا بعيدا، وإن تدعوه فقد ضللتم، قال: ثم جلس إلى حلقة، فقال: إنا كنا قوما آمنا قبل أن نقرأ، وإن قوما سيقرءون قبل أن يؤمنوا، فقال رجل من القوم: تلك الفتنة، قال: أجل، قد أتتكم من أمامكم حيث تسوء وجوهكم ثم لتأتيكم ديما ديما، إن الرجل ليرجع فيأتمر الأمرين أحدهما عجز والآخر فجور، قال خرشة: فما برحت إلا قليلا حتى رأيت الرجل يخرج بسيفه يستعرض الناس.
وفي ذلك الزمان الذي يكثر فيه قراء القرآن وحفاظه ويقل العاملين به والقائمين على فهمه وتدبر آياته، يخير الرجل بين العجز والفجور كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سيأتي على الناس زمان يُخير الرجل بين العجز والفجور، فإن أدركت ذلك فاختر العجز على الفجور"، رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان.
والقصد أي لا يكون هناك عدل ولا استقامة فقد اختلت الموازين وتغيرت الأولويات وانقلبت الأمور والناس تقرأ القرآن لا تفقهه ولا تعمل بما فيه، ففي ذلك الزمان يكثر الفجور بحيث يصعب مقاومته والحد منه حتى يكون أمام الرجل خيارين إما أن يشارك الناس فجورهم أو يفجر عليهم بزعم محاربة فجورهم ولن يصل لشئ بهذا لكثرة الفجور أو يختار العجز والصبر والانشغال بنفسه أمام هذا الفساد العظيم وانقلاب الموازين وقد أمر النبي باختيار العجز لا الفجور، وفي ذلك يقول في حديث نبوي شريف آخر: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض".
ومن مظاهر نقص العلم تأويل القرآن على غير مقصوده ومفارقة الجماعات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلاك أمتي في الكتاب واللبن" فقيل: يا رسول الله ما الكتاب واللبن؟ قال: "يتعلمون القرآن ويتأولونه على غير ما أنزل الله، ويحبون اللبن ويتركون الجماعات والجمع ويُبدون"، رواه أبو يعلى وأحمد.
والمعنى أي قراءة القرآن وحفظه دون فهمه ولا تدبره ولا الرجوع لقول النبي والصحابة والسابقين فيه، والقصد باللبن قيل نسبة للأنعام والبهائم فيترك الرجل الناس ويسكن البوادي والصحاري ويرعى البهائم التي يسترزق بها بعيداً عن الناس والقصد مفارقة الجماعة، لباقي الحديث: يتركون الجماعات والجمع ويبدون، وحكم التزام الجماعة حكم عام له تخصيص في حالة الفتن فقد أجاز النبي الاعتزال في حالات الفتن فراراً بدين المرء حتى لا يُفتن فيه، لما سكن ابن الأكوع في البادية بعد مقتل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال له الحجاج: ارتددت على عقبيك تعربت، فقال ابن الأكوع: لا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو.
قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بين فسقه، ولكني أخاف عليها رجلاً قد قرأ القرآن حتى أزلفه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله". [جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1242) صفة المنافق للفريابي (26)].
ومن مظاهر نقص العلم تصدُر الظانين، قال عقبة بن عامر: "تعلموا قبل الظانين" أي الذين يتكلمون بالظن والتخمين، فتجد الواحد يقول أظن أن الحكم في المسألة كذا، أنا أرى كذا وهو لا يستند على علم ولا كتاب منير بل على الظن والاحتمال، وهذا بسبب انتشار الجُهال بعد موت العلماء ونقص العلم.
والإفتاء في مسألة يحتاج إلى مفتي أو فقيه، فالمفتي هو الذي يمكنه استنباط حكم شرعي جديد في مسألة حديثة معاصرة استناداً على مصادر التشريع الإسلامي، أما الفقيه فهو العالم المقلد لفقه السابقين وأئمة الفقه الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله، و ما أكثر الفقهاء وما أقل المفتين الحق في زماننا، وقاعدة عامة يشترك فيها المفتي والفقيه أن يكون حافظاً لجميع الآيات والأحاديث والآثار الواردة عن الحادثة التي تتطلب منه الإفتاء أو الحكم في المسألة.
يعني مثلاً ليفتي شيخ في مسألة تتعلق بالطلاق لابد ضمن عدة شروط أخرى أن يكون ملماً حافظاً عالماً بكل الآيات والأحاديث النبوية والآثار والحوادث التي جاءت في موضوع الطلاق.
نفس الوضع في مسألة كشرب الخمر أو الحجاب أو الصيام أو الصلاة أو أو أو لابد أن يكون المفتي عالم بكل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار الواردة في تلك المسائل ليحكم فيها بناء على الأدلة النقلية ومقاصد الشريعة الإسلامية دون هوى ولا غرض دنيوي.
ومن أسباب اختلاف أئمة الفقه أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد أن كل واحد منهم كان في قطر ومدينة معينة وزمان مختلف ولم تصلهم جميع الأحاديث النبوية والآثار الواردة في مسألة محددة لذلك اختلفوا بناء على اختلاف ماوصل لكل منهم من أحاديث ففي وقتهم لم يكن علماء الحديث جمعوا السنة في كتب الصحيح بعد، وكذلك اختلفوا بناء على اختلافهم في فهم النصوص المتشابهة، لكنهم اتفقوا فيما لا يحتمل التأويل من أساسيات الدين وقواعده.
المهم أن العلماء في الماضي لم يهتموا كثيراً بأحاديث الفتن والملاحم لبعد الأحداث عنهم فلم يتكلموا فيها كثيراً لكن في زماننا هذا زمان ضياع العلم أصبح سفهاء الأحلام وحدثاء الأسنان يأخذون حديثاً نبوياً واحداً ويقيمون عليه فقه كامل خاص بهم ! ولو جمعوا كل الآيات والأحاديث والآثار الواردة في المسألة كما كان يفعل السابقين الأولين لوجدوا اختلافاً كبيراً عما وصلوا إليه من خرافات يحركها الهوى والسفاهة لا هدي النبي ولا الصحابة ولا من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
طبعاً مع ضرورة العلم بجميع جزئيات الدين الواردة في مسألة لابد من توافر عدة شروط أخرى في المفتي أو الفقيه منها العلم بلغة العرب والشعر والخلق الطيب كالأمانة والصدق وخشية الله وتهيب الفتوى والغنى المادي فلا ينبغي أن يكون المفتي صاحب حاجة دنيوية، لأنه قد يفتي ليتحصل على المال ويقضي حاجاته فيضل ويكذب على الناس، وينبغي أن يكون المفتي عفيف النفس زاهد في الدنيا إن كان غنياً أو فقيراً، حتى لا تكون فتاويه خادمة لحاجاته وشهواته فيُضيّع الناس.
يقول الإمام الشافعي:
"لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيم أُنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة بصيراً بالشعر، وبما يحتاج إليه العلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصات وقلة الكلام .. ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأفكار، وتكون له قريحة (أي ملكة وموهبة) بعد هذا، فإن كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا، فله أن يتكلم في العلم ولا يُفتي".
يعني بالإضافة لكل هذه الشروط العلمية والخُلقية لابد من توافر منح ربانية من معرفة لغة الحوار وقبول المخالف والرد عليه بمنطقه بالحكمة والموعظة الحسنة وإقامة الحُجة، وأن يسمع قبل أن يتكلم وعدة ملكات ومواهب من الذكاء والقدرة على الفهم والحفظ واستنباط الاحكام حتى يصح للعالم أن يصير مُفتياً.
وقال الحسن البصري رحمه الله: "إنما الفقيه الزاهد فى الدنيا، الراغب فى الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الوَرِع الكافُّ عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لهم."."".
ومن مظاهر نقص العلم القول بالرأي واتباع الهوى دون استناد إلى دليل من قرآن أو سنة أو أثر أو أي من مصادر التشريع، أو أن يترك الناس الدليل ويتبعون آراءهم وأهواءهم، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "إن أخوف ما أتخوف عليكم أن تؤثروا ما ترون على ما تعلمون وأن تضلوا وأنتم لا تشعرون".
و المعنى أي أن تصدق عينك المجردة وتتبع رأيك وهواك وتترك ما لديك من العلم والأدلة النقلية، فالعين لا ترى الكليات كلها وقد ترى القضية من زاوية دون أخرى، والعقل قاصر له حدود وقد يخدعك ويسحرك الدجالون والكذابون، فتقرب من الله بالإيمان واعتصم بالله فالمؤمن العالم التقي يرى بنور ربه فيتوافق هواه مع مراد الله وتبغض نفسه المعاصي فهذا الذي يستفتي قلبه فيفتيه بمراد الله ويهديه الله إلى طاعته، أما من هو قلبه مسوداً جاهلاً قاسياً كيف يستفتي قلبه ! إذا استفتاه أفتاه بمراد الشياطين والدجاجلة، قال تعالى: "فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ."، سورة الزمر الآية 22.
ومن مظاهر نقص العلم انشغال الناس بالمُباحات، فيبالغوا في التمتع بما حلل الله لهم فلا يكون لهم من الوقت والقدرة البدنية أو المادية ما يمكنهم من طلب العلم وتدارُسه، وفي هذا قال الله تعالى: "إنما أولادكم وأموالكم فتنة"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال"، رواه الترمذي.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم"، حديث صحيح رواه الإمام مسلم، وهذا الحديث الرائع فيه رد على كل من كفر عامة المسلمين ووضع لهم قواعد وأصول ليحكم عليهم بالإيمان ويدخلهم في أهله ومن خالف قاعدة عندهم فقد خرج من الإيمان وهذا من تلبيس ابليس على الجهال والسفهاء من الناس، فقد شهد النبي أن عموم الأمة لا تشرك بعده وهو حكم عام خُصص في أحاديث أخرى حيث قال النبي أننا نتبع سنن بني اسرائيل وسيلحق بعض أمته بعبدة الأوثان وهذا الحكم خاص ببعض الأمة في آخر الزمان، وإنما خشي النبي علينا جميعاً من الدنيا عامة ومن التنافس في طلب الدنيا الفانية فنهلك كما هلك من قبلنا، وهو حكم عام يخص كل زمان وهو واقع، فالأولى بهؤلاء أن يحذروا من فتنة الدنيا والمال.
وقال النبي في حديث شريف رواه الإمام مسلم: "فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"، فجمع النبي في هذا الحديث بين فتنتين فتنة الدنيا وطلبها والاستمتاع المبالغ بها ونسيان الآخرة، والافتتان بالنساء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وماوالاه، وعالم أو مُتعلم"، رواه الإمام الترمذي.
ومن مظاهر فتنة نقص العلم التكبر عن طلبه، فتجد الواحد ظن نفسه كبيراً في السن أو ذو مقام في المجتمع فيتكبر عن طلب العلم ممن هو أصغر منه وأفقه، أو تجد الواحد لا يحترم معلمه ويختبره ولا يوقره ويتكبر عليه ومتى تعلم منه ينقده ويظن نفسه أفضل منه وماكان العلماء السابقين كذلك وما كان الجرح والتعديل في الماضي كذلك بل ما يحدث اليوم بساحات السفهاء هو تجريح وتعمد الإذلال وتكبر وتصيد الأخطاء والزلات حتى يتعمد الواحد إهانة الآخر والتشنيع عليه وليس ما يحدث في زماننا بجرح ولا تعديل، ولا أمل فيمن هذه تصرفاته في طلب العلم أن يتعلم، قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
قف للمعلم وفه التبجيلا .. كاد المعلم أن يكون رسولا.
ومن مظاهر نقص العلم الزهد في طلبه، فلا يذهب الناس لدروس العلم، ويتركون الكتب، ولا يهتمون بالعلماء، فيصيروا جهالاً، قال الإمام الحافظ ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس: "العلم نور وإبليس يُحسن للإنسان إطفاء النور ليتمكن منه في الظلمة ولا ظُلمة كظلمة الجهل".
وفي رواية لأحمد والشيخين، عن ابن مسعود وأبى موسى رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل، ويُرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج والمرج وهو القتل ".
فبالطبع عند انتشار الجهل ورفع العلم تصير حياة الناس كالبهائم المتصارعة لا يخشون الله ولا يفقهون عاقبة ما يفعلون، وقد قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: "لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم".
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : "كيف بكم أيها الناس إذا طغى نساؤكم وفسق فتيانكم ؟ " . قالوا : يا رسول الله ، إن هذا لكائن ؟ قال : " نعم ، وأشد منه ، كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ ". قالوا : يا رسول الله ، إن هذا لكائن ؟ قال : " نعم ، وأشد منه ، كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفا والمعروف منكرا ؟ " . رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط.
وهذا ما هو واقع في زماننا وقد بينا ما تحصلنا عليه من أسباب فتنة نقص العلم وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخطورة نقص العلم، أنه إذا نزل الجهل ورُفع العلم لا يستطيع الناس تمييز العلماء من الجهال، ولا معرفة الصحيح من السقيم، ولا ادراك الحلال من الحرام فتقع الفتن، ويضل العباد وتصير أحوالهم هرجاً ومرجاً ويأتون بالعجائب والمناكير، ويصبح الحق باطلاً والمعروف منكراً وهذه هي أشد الفتن.
عن سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه سُئل: أيُ الفتن أشد ؟ قال: "أن يُعرض عليك الخير والشر، فلا تدري أيهما تتبع".
وعن أبي ميسرة قال: "تبقى رجرجة من الناس لا يعرفون حقا ولا ينكرون منكرا يتراكبون تراكب الدواب والأنعام" ، رواه ابن أبي شيبة في مسنده.
وهذا من الجهل فالجاهل لا يميز بين الحق والباطل ولا بين الحلال والحرام ولا بين الطيب والخبيث فهؤلاء الجهال يعيشون حياتهم الدنيا مثل الدواب والأنعام التي تسرح في المراعي والغابات يتقاتلون ويتناكحون ويأكلون ويشربون ويتصارعون على الشهوات بل هم أضل سبيلا.
يقول الله تعالى: "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ" .. فقصر الله الخاشين من الله على العلماء العارفين بالله، ولا يعرف ربه من لا يعرف نفسه .. ومن لا يعرف نفسه هو كالدواب بل أضل سبيلا.
فالدواب تعرف قدر نفسها وتعرف قدر ربها لذا رفضت تحمل الأمانة وأشفقت منها سائر المخلوقات .. قال تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" .. فليس شئ مخلوق أجهل منك أيها الإنسان !!
فالإنسان جهول جهول بنفسه وجهول بربه فذرات جسده كلها تسبح بحمد ربها بينما نفسه كافرة متمردة !! يوم القيامة تشهد عليه يداه وقدماه وعيناه وأذناه وسائر حواسه وذراته وهو يستعين بها في دنياه على معصية خالقها وخالقه ! خرج من بطن أمه لا يفقه شيئا .. مخلوق أجوف .. لا يستطيع الاستغناء عن التطهر والتنظف وإلا تجمعت عليه الحشرات والقاذورات والكائنات الدقيقة التي حتى لا يراها بعينه المجردة ! كائن ضعيف .. نوبة وجع بالرأس ترهقه وتلزمه الفراش لا يدري بأي أرض يموت وكيف تتقلب به الأيام والسنين .. ولكن الإنسان ظالم لنفسه بجهله قدرها وضعفها وهوانها وخستها ظالم لنفسه باختياره طريق الهالكين .. لو نظر لنفسه في الكون العظيم والمجرات وفي مجموع المخلوقات الأرضية فضلاً عن السماوية والغيبية لأدرك أنه لا يساوي شئ في ملك ربه وأن خلق السماوات والأرض أكبر وأعظم .. وأن آيات الله في كونه أعظم من آيات الله في بني آدم .
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق .. ولكن ذلك الحق لا يتبين إلا لمن يرى ومن يرى يلزمه بصيرة لا بصر .. والبصيرة لا توهب إلا لمن يخشى ربه .. والجهول عديم البصيرة لا يخشى الله فهو لا يعرفه ولا حتى يعرف نفسه ... إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ .. ولا عالم إلا من خشي ربه وعرف قدر نفسه وعرف أن قدره لا شئ في ملك الكبير المتعال .. وحين تعرف قدر نفسك الحقيقي وتقر بالخضوع والاستسلام طوعاً وكرهاً للمصور خالقك وخالقها كما أسلمت سائر المخلوقات سوى نفسك .. ينعم الله عليك بالتعرف عليه وعلى آياته في نفسك وفي الآفاق .. وتخرج من جموع الجاهلين إلى عالم النور وينعم الله عليك بالبصيرة بعد ضلال وعمى وظلمات بعضها فوق بعض .. فمن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .. وبهذا النور تفهم القرآن كما أُنزل وتسلم بما فيه وتسلم بتبيين النبي له .. فالعارف بالله الخاشع له مستسلم لقضائه راض بحكمه .. قال تعالى: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا" وذلك النور لن تصل إليه وحدك ولا بملايين الكتب والشهادات والقواعد والشيوخ فبدون هذه الخشية والانكسار لله والإيمان والإقرار بالعبودية له ستقرأ وتفهم القرآن على غير تأويله وغير مراده ويطمس الله على بصرك وقلبك وتعمى بصيرتك .. وليوفقك الله لهذا يلزمك قبول
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"مثل ما بعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ و العشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها و سقوا و زرعوا، و أصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء و لا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله و نفعه ما بعثني الله به فعلِم وعلّم، و مثل من لم يرفع بذلك رأسا، و لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"، رواه الشيخان البخاري ومسلم.
ومعنى الحديث مبسطاً: أي الناس على ثلاثة أصناف فالصنف الأول: مثل الأرض تشرب المطر فتنبت الزرع فتستفيد و تفيد غيرها، و الصنف الثاني: مثل الأرض الجدباء (تخيل كالحجر) يبقى عليها الماء و لكن لا تنبت فالناس تأخذ الماء و تستفيد به ولكن الأرض لا تستفيد أي لا يستفيد الشخص بعلمه ولكن يفيد غيره، و الصنف الثالث: مثل الأرض القيعان لا تمسك ماء ولا تنبت نبات (تخيل كالرمل) فلا تستفيد ولا تفيد غيرها، وهذا حال الناس في فهم الهدي النبوي والنور الذي أُنزل معه.
نقص العلم من أعظم الفتن ومن علامات الساعة فما ضل الناس إلا بسبب نقص العلم، وما تاهوا إلا بسبب نقص العلم، وما فُتنوا إلا بسبب نقص العلم.وسنتناول مظاهر فتنة نقص العلم وأسبابها وكيف نستطيع النجاة في زمان نقص العلم.
من أول مظاهر نقص العلم، موت العُلماء، فموت العَالِم مصيبة ما بعدها مصيبة، فمتى مات العالم تصدر الأقل علماً فالأقل فالأقل حتى يتصدر الجُهال.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العُلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"، حديث صحيح رواه الإمام البخاري.
والمعنى أي أن العلم ينقص بوفاة العلماء، ولازالوا يتناقصون حتى إذا جاء زمان مات فيه جميع العلماء أو غالبهم وتناقصوا اتبع الناس الجُهال وسألوهم في أمور دينهم فأفتوا بجهل وغير علم فهم في ضلال ويُضلون غيرهم من الناس.
عن أبي وائل قال: قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أتدري كيف ينقص العلم ؟
قلت: كما يُنفَضُ الثوب، وكما يقسو الدرهم.
قال: "لا، وإن ذلك لمنه، قبض العلم: قبض العلماء".
وقال سيدنا عبد الله بن عباس ، في تفسير قوله تعالى : "أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِن ْأ َطْرَافِهَا"، سورة الرعد آية 41 قال: موت علمائها.
و موت العالم كارثة فهو لا يعوض بمثله، قال الإمام الحسن البصري: "موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار".
رحم الله العلماء الأول حين تقرأ سيرهم تتعجب حفظ الإمام الشافعي فقه الإمام مالك كله (موطأ الإمام مالك) حفظاً من الجلدة للجلدة كما يقولون في تسعة أيام وهو ابن عشر سنين ثم ذهب يطلب العلم من الإمام مالك وهو ابن أربعة عشر سنة ! والحفظ أيامهم يعني تسميع كل ما في الكتاب برقم الصفحات مع الفهم طبعا والفهم الصحيح !! فمن فينا قرأ الموطأ ولو مرة في حياته ؟ ومن فينا فهم كل مسائله ؟ ومن فينا يستطيع تسميعه بعد قراءته ! وهو ليس الكتاب الوحيد الذي حفظه الإمام الشافعي فهذا مع غيره من الكتب والتراجم ودروس العلماء بالاضافة طبعاً للقرآن الكريم قبل كل شئ وكثير من السنة النبوية الشريفة، ومع هذا لم يقول الإمام الشافعي على نفسه أنه شيخ الإسلام أو حجة الزمان أو إمام السنة أو أو من المصطلحات السفسطائية التي يقولها جهال أهل هذا الزمان بل كان يقول: "كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي"، والإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله حفظ القرآن، فأتم حفظه وهو دون الثامنة، ثم حفظ بعض الكتب في تلك السن المبكرة مثل العمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك، وغيرها وقدم كثير من الكتب والعلوم خدمة لدين الله تعالى، وغيرهم من العلماء الأجلاء السابقين.
وتجد اليوم مثلاً يقول الناس على رجال الحديث في زماننا المحدث الفلاني وأهل الحديث وإمام السنة، ويظنون أن أهل هذا الزمان هم أعلم الناس بالحديث الشريف! لكنهم لا يعلمون مراتب المحدثين عند السابقين فأعلى مرتبة لأئمة الحديث هي مرتبة أمير المؤمنين في الحديث وهو الذي يكاد لا يخفى عليه شئ من حديث النبي بمتنه وإسناده رواية ودراية وأحوال رجاله وهذه المرتبة لم يحصل عليها غير قليل من الأفذاذ كالتابعي سفيان الثوري والإمام مالك والإمام البخاري والإمام ابن حجر العسقلاني، المرتبة الثانية مرتبة الحاكم: هو من حفظ ثمانمائة ألف حديث متناً وسنداً مع معرفته ما يحتاج إليه من علم الحديث ومعرفته بحال رواتها جرحاً وتعديلاً ورداً وقبولاً، المرتبة الثالثة مرتبة الحجة: وهو من حفظ ثلاثمائة ألف حديث متناً وسنداً ولو بطرق متعددة ووعي ما يحتاج إليه من علوم الحديث، المرتبة الرابعة مرتبة الحافظ : هو من حفظ مائة ألف حديث متناً وسنداً ولو بطرق متعددة ووعي ما يحتاج إليه علم الحديث، المرتبة الخامسة مرتبة المحدِّث: هو الذي اشتغل بالحديث وإعتنى به روايةً ودرايةً وإطلع على كثيرٍ من الرواه والمرويات حتى عُرف عنه ذلك، المرتبة السادسة مرتبة المُسنِد: هو من يروي الحديث بإسناده سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد الرواية وبمعنى آخر المسنِد هو الراوي، وفي زماننا هذا لا يوجد غير المرتبة السادسة والمرتبة الخامسة من أهل الحديث فلا يوجد في زماننا أمير مؤمنين في الحديث ولا حاكم ولا حجة ولا حافظ ويكفي هذا لتوقن أننا في زمان نقص العلم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "عليكم بالعلم قبل أن يُقبض، وقبضه ذهاب أهله، عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يُقبض، أو متى يُفتقر إلى ما عنده، وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، والتنطع، والتعمق، وعليكم بالعتيق".
حذر الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، من ترك العلم وترك تحصيله من العلماء فقد يُقبض في أي وقت بقبض العلماء، فإنه لا يدري أحد متى يُقبض العلم بقبض أهله، أو متى يحتاج الناس لما عند الرجل من العلم، فقد يزهد الناس في علم ما لعدم حاجتهم لمعرفته بوقت معين وقد يحتاجون معرفته فيما بعد ولكن يكون العالم قد مات وفات أوان تحصيل العلم، قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: "لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم أو يُعلم الآخر، فإن هلك الأول قبل أن يُعلم أو يتعلم الآخر، هلك الناس".
وحذر كذلك من ثلاثة أمور ونصح بالتمسك بواحدة:
التبدع: تبدَّع الشيء أي أَنشأَه وبدأَه أو أحدثه واخترعه والمراد هنا : الحدث في الدين بعد الإكمال.
التنطع: التكلف والمغالاة في القول أو الفعل.
التعمق: المبالغة في الأمر والتشدد فيه والانشغال بتفاصيل لا تضر ولا تنفع.
العتيق: القديم وما كان عليه الأوائل والمراد التمسك بما كان عليه النبي وأصحابه.
ونأتي لهذه الأربعة فنفصلها:
أولاً التبدع من مظاهر نقص العلم، فالأصل في العادات الحل إلا بنص .. والأصل في العبادات التحريم إلا بنص، وهذه قاعدة فقهية، فمامعنى هذه القاعدة ؟
يعني أي عادة للناس هي حلال إلا لو جاء نص بتحريمها.
مثال: مشاهدة التلفاز حلال إلا لو هناك نص بالتحريم .. ومادام لا يوجد نص مباشر بتحريم مشاهدة التلفاز إذاً هو حلال ويبقى محرم مافيه من الفواحش والاطلاع على العورات والفجور وماجاء نصوص بتحريمه.
مثال آخر: الشرب مثلاً عادة وهو حلال إلا مافيه نص بالتحريم، كشرب الخمر والمسكرات والدم.
بالنسبة للعبادات فالأصل هو التحريم.
مثال: الصيام في غير رمضان مثلاً حرام، إلا بنص مثل النصوص الواردة في صيام الست من شوال والاثنين والخميس من كل أسبوع وثلاثة أيام من كل شهر وصيام التطوع وصيام داوود كل هذا وماورد في النصوص جائز وحلال بنص شرعي ومنهي عن صيام الدهر ومنهي عن الصيام من الظهر للعشاء مثلاً فهذا ابتداع في العبادة غير وارد في الدين.
مثال آخر: الصلاة خمس ركعات مثلاً حرام فهذا غير وارد في الدين، فلا يصح لأحد أن يقول صلاة الثلاثاء مثلاً أو صلاة الساعة التاسعة أو يبتدع صلاة أو أي عبادة ويداوم عليها أو يدعوا الناس لها وهي غير موجودة في الشريعة فهذه بدعة ولا يصح نسبتها للدين.
لو ليس هناك نص بمشروعية العبادة إذاً لا تصح .. فكل بدعة ضلالة.
فالعادات هي ما اعتاده الناس من مأكل ومشرب وملبس وسائر تصرفاتهم باختلاف أزمانهم وأماكنهم.
أما العبادات فهي واردة بنص عن الله أو عن رسوله بصفته مبلغاً عن الله .. ولا يحل الابتداع في العبادة أو تشريع عبادة جديدة لم يرد بها نص في قرآن أو سنة.
ثانياً: التنطع من مظاهر نقص العلم، وهو كثرة السؤال والتشدد، فإن هذا الدين يسر وإنما بعثتم ميسرين لم تبعثوا معسرين، وبعث النبي رحمة لا عذاب وأمته رسالتهم تبليغ رسالة نبيهم رحمة بالناس وشفقة بالعالمين وخوفاً عليهم من عذاب أليم، لا رغبة في قتلهم ولا للتحصل على أموالهم ولا للسيطرة على أراضيهم، وسكت النبي عن أشياء كثيرة رحمة بكم فلا تكونوا كأصحاب البقرة ظلوا يسألون ويعسرون على أنفسهم ولو استجابوا للأمر الأول لكفاهم ذبح أي بقرة، قال تعالى: " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاء إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها"، حديث حسن رواه الدارقطني وغيره، وقد أدى النبي الرسالة وبلغ الأمانة ونصح الأمة فالخير فيما أخبر به النبي وبلغ ولا حاجة لنا فيما سكت عنه وترك رحمة غير نسيان وما كان ربُك نسياً.
ثالثاً: التعمق من مظاهر نقص العلم، فيسأل الناس عن تفاصيل لا داعي لها ولا فائدة منها، كقوله تعالى: "سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا" ، فاياً ما كان عددهم هذا لا يثري العبرة من القصة ولا يزيدها ولا ينقصها شيئاً فتجد الواحد ترك العبرة والاستفادة من آيات أهل الكهف وجلس يبحث عن عددهم وشكلهم ومكانهم وصورتهم، أو كأن يسأل أحدهم ما هو رمان الجنة وما لونه وما طعمه وما رائحته؟ وهذا من العلم الذي لا ينفع ولا تصل فيه لشئ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ منه فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع".
رابعاً: هو ما نصحنا سيدنا حذيفة خبير الفتن بالتمسك به فقال: عليكم بالعتيق أي القديم من هدي الأوائل السباقين في الإسلام فتعلموا المسائل التي بينها النبي لأصحابه والبينات التي ذكرها لهم، وآثار الصحابة والتابعين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته"، حديث صحيح – رواه الإمام البخاري.
والقرن هو المائة عام، والمقصود خير القرون في الإسلام هو عهد النبي ثم القرن الذي يليه هو قرن الصحابة، ثم قرن التابعين، فهذه القرون الثلاثة هي خير القرون في الإسلام فهم أفقه الناس وأعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله وأقربهم لعهد رسول الله وأفضلهم علما وعملا ثم القرون بعدهم تتناقص في الخير والعلم والعمل والمنزلة عند الله، حتى تأتي قرون يحلف الناس فيها كذبا وزوراً ويتقولون الكذب على الله ورسوله لا يخشون الله ولا يتقوه (طبعاً ذلك لا ينفي وجود بعض الأخيار فيهم ولكن القصد على الغالب، فالغالب في القرون الثلاثة الأولى هم الأخيار والغالب فيما بعدهم هم الأشرار)، وذلك تعرفه من قوله تعالى: "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّات النَّعِيم ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ(13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ"، سورة الواقعة (10-14).
أي أن السابقين المقربين غالبهم من الأوائل في الإسلام ومن القرون السابقة التي آمنت مع الرسل، وقليل منهم يكون من الناس في آخر الزمان.
فنفهم من هذا أن من مظاهر نقص العلم الكذب على الله ورسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم"، حديث صحيح رواه الإمام مسلم، وفي لفظ "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإياكم لا يضلونكم ولا يفتنونكم".
ونفهم أن من مظاهر فتنة نقص العلم شهادة الزور وتبديل دين الله وأحكامه فإن دين الله واحد،
دخل ابن مسعود الأنصاري رضي الله عنه على حذيفة رضي الله عنه فقال: "اعهد إلي" .
فقال حذيفة : "ألم يأتك اليقين؟".
قال : "بلى وعزة ربي" .
قال حذيفة : "فاعلم أن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تُنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله تعالى، فإن دين الله واحد".
و القصد أن الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر أي بالأمس مثلاً كنت تعرف أن الشئ الفلاني حرام و اليوم تعتبره حلالا !! أو أن كنت تعرف بالأمس أن ذلك الشئ حلال واليوم تحرمه، بحسب الأهواء واختلاف المصالح فذاك حق الضلالة، فدين الله واحد لا يتلون ولا يتبع الأهواء ولا يتبدل.
يقول سيدنا عبد الله بن مسعود فقيه الأمة: "من كان منكم مُستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلُفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم".
أما في هذا الزمان وقد قبض العلم وظهر السفهاء فتجدهم ينكرون على السابقين السابقين ويقولون أن تفسيراتهم وفقههم رجعي قديم يحتاج تطوير وتجديد وتحديث ! وأن لدى هؤلاء السفهاء من المتأخرين ما هو أفضل مما كان عند النبي وعند الصحابة وعند التابعين وعند رجال الحديث الشريف!! وأن الله فتح عليهم بمعرفة القرآن كما لم يعرفه النبي ولا الصحابة ولا التابعين ! الذين شهد الله لهم بأنهم السابقون المقربون وشهد النبي صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم خير القرون ! فمن تصدق سفهاء هذا الزمان أم الله ورسوله؟ ووالله هذا قد أخبر به نبي الله وحذر وهو من علامات الساعة.
قال سهل بن عبد اللّه التّستري: "عليكم بالأثر والسُنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذَكر إنسان النبي صلّى الله عليه وسلّم والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرؤوا منه، وأذلوه وأهانوه"، أليس هذا واقع ؟
ومن مظاهر فتنة نقص العلم أخذ العلم من الصغار، الصغار في السن والصغار في العلم.
عن أبي أمية الجمحي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن من أشراط الساعة أن يُلتمس العلم عند الأصاغِر"، رواه ابن المبارك في الزهد و الطبراني في المعجم الكبير.
وعن سيدنا عبد الله بن مسعود قال: "إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم في كِباركم، فإذا كان العلم في صغاركم سفّه الصغير الكبير".
و القصد بالصغير الصغير في السن والصغير في العلم.
فتجد اليوم الدعاة صغار السن وصغار العلم متصدرين المشهد وجذبوا حولهم الشباب والأجيال الصاعدة وزينوا لهم القول وجذبوهم لحديثهم وتجدهم يسفهون من الشيوخ الكبار وعلومهم وينتقدون أساليبهم ودعوتهم وهم ليسوا علماء بل دعاة صغار! وشتان الفرق بين العالم والداعية وبين الإمام والخطيب وبين العابد والعالم، فكلنا نحن المسلمين عباد لله وكلنا دعاة إلى الله وبعضنا خطباء في المساجد وليس كلنا أئمة ولا كلنا علماء.
والصغير في العلم فتجد الواحد قرأ كتاباً واحداً و ربما كتيب أو سمع محاضرة ما أو دروس علم قليلة .. فيسميه الناس شيخ و علامة ويغتر هو بذلك فيفتى و يفسر و يجادل و يتطاول على العلماء الكبار وتفسيراتهم وما اتفق عليه علماء الأمة وأجمع عليه السابقون ويتطاول على أهل العلم فتجده يجادل علماء اللغة وعلماء الأصول وعلماء التفسير وعلماء الحديث وهو أصلاً جاهل لا يفقه حتى عنوان العلم الذي يتحدث فيه سفيه بمقاييس أهل العلم، و هذه من أشراط الساعة، وصار الصغير في العلم والسن يسفه الكبير ويتطاول على أعلام الأمة بشهادة الله ورسوله.
ومن مظاهر نقص العلم عودة الجهل علما والعلم جهلا قال الإمام التابعي الشعبي: "لا تقوم الساعة حتى يصير العلم جهلا والجهل علما"، فيفتن الناس بالجهال ويعتبروا سفاهاتهم علماً ويترك الناس العلماء الحق وتفسيراتهم ويعتبروا علومهم وتراثهم جهلاً وهذا من مظاهر نقص العلم واختلال الموازين في آخر الزمان.
كان الإمام الفقيه مالك بن أنس يقول : "لا يؤخذ العلم من أربعة، ويؤخذ ممن سوى ذلك: لا تأخذ من سفيه مُعلن بالسَّفه وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس, إذا جُرِّب ذلك عليه وإن كان لا يُتَّهم أن يكذب على رسول الله, ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يُحَدِّث ".
ومعنى الأثر واضح فلا تأخذ العلم من سفيه مهرج لا حياء عنده ولا وقار، ولا تأخذ العلم من كذاب حتى لو كان لا يكذب في الحديث النبوي الشريف، ولا تأخذ العلم من متبع لهواه، ونركز على النوع الأخير من الأربعة أي لا تأخذ العلم من عابد وخذه من عالم متعلم يفهم العلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"، والعلم يؤخذ من العالم لا يؤخذ من العابد فالفرق كبير بينهما كالفرق بين السماء والأرض .. وقد قال التابعي سيدنا سفيان الثوري: "تعوَّذوا بالله من فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإنَّ فتنتهما فتنة لكل مفتون"، فالعابد الجاهل فتنة لأن الناس تسأله فيفتي لهم بما لا يفقه فيضلوا، والعالم الفاجر فتنة لأن الناس تتبعه وتقلده في فجوره فيضلوا.
ومن مظاهر فتنة نقص العلم عدم العمل به، كأن لا يعمل العالم بعلمه أو أن تطبع المعاصي والذنوب على قلبه فيطفأ نور العلم من صدره، فلا ينتفع بعلمه ولا يفقهه وينساه ولا يستفيد، والفعل يؤثر في الناس أكثر من الكلام وقد قال الإمام عمر بن عبد العزيز: "ادعوا إلى الله وأنتم صامتون" قالوا: كيف ذلك؟ قال: "بأخلاقكم".
فإذا كان العالم يسب ويرتكب المعاصي جهاراً فكيف يستفيد منه الناس أو طلابه ! وكيف يتبعونه حين ينهاهم عن الفواحش وهو يأتيها ! قالوا: ليس المهم أن تعلم إنما الأهم أن تعمل بما تعلم، وقد كان الصحابة لا يحفظون عشر آيات من القرآن الكريم حتى يعملوا بما فيها، وكثير من الصحابة الكرام لم يحفظوا القرآن كاملاً لكنهم كانوا يعملون بما فيه، وإذا لم يعمل العالم و لم يفيده علمه استوى بالجاهل، بل هو أسوأ من الجاهل مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها (أي لم يعملوا بما فيها) كالحمار يحمل أسفاراً.
والعالم الذي لا يعمل بعلمه هو كالأرض الجدباء النوع الثاني من أصناف الناس في طلب العلم، فهو أخذ العلم ولم يستفيد وقد يستفيد به غيره أفضل منه فرُب مُبّلغ أوعى من سامِع، والعالم الذي لا يستفيد بعلمه ولا يعمل به يعاقبه الله بنسيانه.
ومن صور قبض العلم أن يكون العلم على سبيل الثقافة بين الناس على الألسنة وفي المجالس ولا أثر له في حياتهم العملية والعلم حياته في العمل به.
ومن فتنة نقص العلم أخذ العلم من غير أهله، فتأتي لعالم تفسير تسأله في الحديث أو تأتي لعالم فقه تسأله في العقيدة أو تأتي لعالم أصول تسأله في أحوال الرجال أو تأتي لطبيب تسأله في الهندسة، أو تأتي لعالم دين تسأله في السياسة، وقد قال الشيخ الشعراوي رحمه الله: "أتمنى أن يصل الدين إلى أهل السياسة.. ولا يصل أهل الدين إلى السياسة"، والقصد أن يكون خبراء السياسة عارفين بدينهم وبربهم لا أن يصل العباد وعلماء الدين للسياسة لأنهم لا يفقهونها، كأن يصير الطبيب نجاراً فالطبيب لا يفقه بالنجارة وهو خبير بمجاله لكن حبذا لو كان الطبيب عارفاً بربه متقياً له، ولا يجوز لرجل الدين أن يصير طبيباً فسيقتل الناس ويمرضهم بدلاً من أن يشفيهم ويعالجهم لجهله بالطب وهذا ليس من مقاصد الشريعة ولا يصح بحال، وقد قال الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني: "من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب"، وهذا والله ماهو كائن، وقد قال بعض السلف: "إن الذي يفتي الناس في كل شئ لمجنون".
ومن مظاهر نقص العلم طلب العلم للدنيا، حتى يُقال فلان عالم وفلان شيخ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، أدخله الله النار"، رواه الترمذي وغيره، وهذا من علامات الساعة وعلامات الهلاك والخراب، قال سيدنا علي بن أبي طالب: "إذا تُفُقَّه لغير الدين، وتُعلِّم العلم لغير العمل، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة فهذا من علامات هلاك الأمة".
ومن مظاهر نقص العلم عدم نشر العلم، فالعالم الذي لا ينشر علمه ويكتمه ولا يبلغه يعاقبه الله بنسيانه، وقد تجد طلاب العالم لا ينشرون علمه أو طلاب جهال فشلة لا يستفيدون من العالم ولا يفقهون علمه فلا يفيدون غيرهم أو لا يحسنون الفهم فيبلغون علم العالم على غير مراده، فهذا كأنهم أماتوا العالم وهو حي، وقد قيل: "لا ينبغي لمن عنده علم أن يُضيع نفسه"، وتضييع نفسه بنشر علمه في غير أهله فلا يستفيدوا ولا يُفيدوا فكأن العالم ما بلّغ ولا علّم، وقيل: "وضع العلم في غير أهله كمن ينثر الدر بين سارحة الغنم".
ومن مظاهر فتنة نقص العلم مخالطة العلماء للحكام والسلاطين، وسنتحدث عن هذه الفتنة بشئ من التفصيل لوقوعها في زماننا، قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي : "ومن صفات علماء الآخرة أن يكونوا منقبضين عن السلاطين، محترزين عن مخالطتهم"، وروى أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء بإسناده عن جعفر الصادق أنه قال: "الفقهاء أمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا إلى السلاطين فاتهموهم"، والقصد من ذلك أن الحكام يركنون إلى الدنيا ويصيبون ويخطئون كثيرا فلا يصح للعلماء التقرب إليهم ومهادنتهم بقصد قبول رضا السلطان حتى يحصلوا على المال ومتاع الدنيا بذلك، ومتى اختلط العالم بالحاكم صارت فتاويه تابعة لهوى السلطان ونافق الحاكم وخسر علمه، أما إذا كان العالم ناصحاً أميناً للسلطان -وفق الآداب الشرعية- مرشداً له أو منكراً عليه بالحق مذكر له بربه لا يطلب منه دنيا ولا حاجة له فيما عنده، فهذا لا شك خير وخاصة إذا تقبل الحاكم النصيحة، لكن عليه أن يحذر وأن يتبع الحق ولا يكثر من مخالطة الحكام لأنه قد يفتتن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد عبد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بُعدا "، رواه الإمام أحمد، وقال حذيفة رضي الله عنه: إياكم ومواقف الفتن قيل : وما هي ؟ قال : "أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه"، فقد يخشى القريب من الحاكم قول الحق حتى لا يؤذيه الحاكم أو قد تصير إليه فاقة فيحتاج لما عند السلطان فينافقه أو غير ذلك من أبواب الفتن التي تفتح بصحبته للحكام، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إن الرجل ليدخل على ذي سلطان ومعه دينه فيخرج وما معه دينه"، قيل وكيف ذلك؟ قال: "يُرضيه بما يُسخِط الله".
وصدق الشاعر حيث قال:
إن المُلوك بلاءٌ حيثُما حَلُّوا فلا يكن لك في أفنائهم ظِل.
وما تُريد بقومٍ إن هم سخطوا جاروا عليك وإن أرْضَيتهُم مَلُو.
وإن مدحتهم ظنوك تخدعَهم واستثقلوك كما يُستثقل الكل.
فاستغن بالله عن أبوابهم أبداً إن الوقوف على أبوابهم ذُل.
وقال ابن عبد البر : في كتاب بهجة المجالس يقال : "شر الأمراء أبعدهم من العلماء وشر العلماء أقربهم من الأمراء".
والقصد أي شر الحكام هم الذين لا يستشيرون العلماء ولا يوقروهم ولا يأخذون بعلمهم وشورتهم، كما أن شر العلماء هم الذي يتقربون للحكام ويداهنوهم ويقفون على أبوابهم، والصواب هو الوسط أن يتخذ الحكام من العلماء مستشارين وآمرين بالمعروف وأن ينصح العلماء الحكام وفق الآداب الشرعية بالحق دون حاجة فيما عندهم ومع الحرص والحذر وبحسب حال الحكام.
قال ميمون بن مهران رضي الله عنه: "في صحبة السلطان خطر، إن أطعته خاطرت بدينك، وإن عصيته خاطرت بنفسك، والسلامة أن لا يعرفك".
وعن الفضيل بن عياض رحمه الله قال: "لو أن رجلا لا يخالط هؤلاء –يعني السلاطين– ولا يزيد على الفرائض فهو أفضل من رجل يخالط السلطان ويصوم النهار ويقوم بالليل ويحج ويجاهد، وما أقبح عالماً يُسأل عنه أين هو؟ فيقولوا عند الأمير".
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ليس شيء أضر بهذه الأمة من ثلاث: حب الدينار والدرهم، وحب الرياسة، وإتيان باب السلطان، وقد جعل الله منهن مخرجا".
قيل لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على السلطان فنتكلم بالكلام، فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه، قال: "كنا نعدها من النفاق".
وعن سفيان الثوري رحمه الله قال : "إذا رأيت القارئ يلوذ بالسلطان فاعلم أنه لص، وإن لاذ بالأغنياء فمراء، وإياك أن تُخدع فيقال : لعلك ترد عن مظلمة أو تدفع عن مظلوم ، فإن هذه خدعة من إبليس اتخذها فجاز القراء سلما" .
قال الحسن البصري: "لا تزال يد الله على هذه الأمة ما لم يعظم أبرارهم فجارهم، وما لم يرفق خيارهم بشرارهم، وما لم يمل قراؤهم إلى أمرائهم، فإن فعلوا ذلك رفع الله عنهم البركة، وسلط عليهم جبابرتهم وقذف في قلوبهم الرعب، وأنزل عليهم الفاقة".
وقال الشاعر:
أرى الملوك بأدنى الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا في العيش بالدون.
فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما استغنى ... الملوك بدُنياهم عن الدين.
(غالب هذه الآثار من كتاب تنبيه الغافلين - باب مخالطة السلطان).
ومن مظاهر نقص العلم زلات العلماء، عن زياد بن حدير قال : قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قال : قلت : لا. قال : "يهدمه زلة العالم وجدال المُنافق بالكتاب وحُكم الأئمة المضلين"، رواه الدرامي، فالعالم يكون له تاريخ طويل في تحصيل العلم ونشره ونفع الناس ثم يُخطئ في مسألة أو موقف أو يكبر سنه فيخرف وينسى أو يرتكب معصية تنتشر بين الناس فيترك الناس على إثر ذلك سائر علمه، والناس ليس عندها إنصاف فإما يأخذون العالم بكل ماجاء به أو يتركونه بكل ماجاء به وهذا من مظاهر فتنة نقص العلم وانتشار الجهل فالحق لا يُعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله، بمعنى احرص على معرفة الحق أولاً فمن قال الحق اتبع الحق الذي يقوله ولا تتبعه لشخصه، فإن قال باطل اترك الباطل الذي يقوله لا تتركه لشخصه، وخذ الحق من أياً من كان واترك الباطل من أياً من كان، وقد صدّق النبي قول الشيطان فقال لأبي هريرة: صدقك وهو كذوب، فلو قال الشيطان لا إله إلا الله هل ستكذبه لأنه شيطان ؟ بل ستقول صدقت وأنت كذوب، ولو كذب صالح أو طالح فلا تصدق كذبه فالحق أحق أن يتبع.
فكيف تعرف الحق حتى تستطيع تمييز الرجال ؟ هذا لا يتحصل إلا بالإيمان وطلب العلم والتقرب إلى الله وترك المعاصي وفهم القرآن وتدبر آياته والعلم بالسنة النبوية وتفسير النبي لكلام الله فقد أرسل الله نبيه ليبين رسالته للناس، فلا تظن أن هناك من هو أعلم من النبي بمراد كتاب الله فهو سيد الخلق الذي اختاره الله ليبين للناس المقصود من رسالته، وأن تسأل الله أن يهديك لنوره وييسير لك فهم آياته وأن يفقهك في الدين ويعلمك التأويل وأن يزيدك علما.
ومن مظاهر نقص العلم حفظ القرآن وقراءته دون فهمه وقبل أن تتشرب القلوب الإيمان، قال سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "إنا كنا قوماً آمنا قبل أن نقرأ، وإن قوماً سيقرءون قبل أن يؤمنوا".
يقصد قراءة القرآن فهدي الصحابة كان الإيمان والإسلام والتسليم أولاً حتى إذا تشربت قلوبهم الإيمان والتصديق بالله وكتبه ورسله وملائكته والقدر خيره وشره بدأوا في قراءة القرآن وتدبره فيفهمون القرآن بناء على قواعد الإسلام والإيمان الثابتة في قلوبهم وعقولهم، فيعملون بما فيه ويفسرونه وفق هدي الإيمان أما الآن فقد صار ما أخبر به سيدنا حذيفة فالقوم يقرأون القرآن ويحفظونه ويتباهون ويتسابقون في ذلك قبل أن يدخل الإيمان قلوبهم فيفهمونه على غير مقصوده و يؤلونه في غير موضعه فضلوا و أضلوا.
يقول الإمام الحسن البصري: "والله! ما تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل".
يقول ابن أبي شيبة في مصنفه (كتاب الفتن): حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا الصلت بن بهرام قال أخبرنا المنذر بن هوذة عن خرشة أن حذيفة دخل المسجد، فمر على قوم يقرئ بعضهم بعضا، فقال: إن تكونوا على الطريقة، لقد سبقتم سبقا بعيدا، وإن تدعوه فقد ضللتم، قال: ثم جلس إلى حلقة، فقال: إنا كنا قوما آمنا قبل أن نقرأ، وإن قوما سيقرءون قبل أن يؤمنوا، فقال رجل من القوم: تلك الفتنة، قال: أجل، قد أتتكم من أمامكم حيث تسوء وجوهكم ثم لتأتيكم ديما ديما، إن الرجل ليرجع فيأتمر الأمرين أحدهما عجز والآخر فجور، قال خرشة: فما برحت إلا قليلا حتى رأيت الرجل يخرج بسيفه يستعرض الناس.
وفي ذلك الزمان الذي يكثر فيه قراء القرآن وحفاظه ويقل العاملين به والقائمين على فهمه وتدبر آياته، يخير الرجل بين العجز والفجور كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أبي هريرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سيأتي على الناس زمان يُخير الرجل بين العجز والفجور، فإن أدركت ذلك فاختر العجز على الفجور"، رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان.
والقصد أي لا يكون هناك عدل ولا استقامة فقد اختلت الموازين وتغيرت الأولويات وانقلبت الأمور والناس تقرأ القرآن لا تفقهه ولا تعمل بما فيه، ففي ذلك الزمان يكثر الفجور بحيث يصعب مقاومته والحد منه حتى يكون أمام الرجل خيارين إما أن يشارك الناس فجورهم أو يفجر عليهم بزعم محاربة فجورهم ولن يصل لشئ بهذا لكثرة الفجور أو يختار العجز والصبر والانشغال بنفسه أمام هذا الفساد العظيم وانقلاب الموازين وقد أمر النبي باختيار العجز لا الفجور، وفي ذلك يقول في حديث نبوي شريف آخر: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض".
ومن مظاهر نقص العلم تأويل القرآن على غير مقصوده ومفارقة الجماعات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلاك أمتي في الكتاب واللبن" فقيل: يا رسول الله ما الكتاب واللبن؟ قال: "يتعلمون القرآن ويتأولونه على غير ما أنزل الله، ويحبون اللبن ويتركون الجماعات والجمع ويُبدون"، رواه أبو يعلى وأحمد.
والمعنى أي قراءة القرآن وحفظه دون فهمه ولا تدبره ولا الرجوع لقول النبي والصحابة والسابقين فيه، والقصد باللبن قيل نسبة للأنعام والبهائم فيترك الرجل الناس ويسكن البوادي والصحاري ويرعى البهائم التي يسترزق بها بعيداً عن الناس والقصد مفارقة الجماعة، لباقي الحديث: يتركون الجماعات والجمع ويبدون، وحكم التزام الجماعة حكم عام له تخصيص في حالة الفتن فقد أجاز النبي الاعتزال في حالات الفتن فراراً بدين المرء حتى لا يُفتن فيه، لما سكن ابن الأكوع في البادية بعد مقتل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال له الحجاج: ارتددت على عقبيك تعربت، فقال ابن الأكوع: لا ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو.
قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه، ولا من فاسق بين فسقه، ولكني أخاف عليها رجلاً قد قرأ القرآن حتى أزلفه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله". [جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (1242) صفة المنافق للفريابي (26)].
ومن مظاهر نقص العلم تصدُر الظانين، قال عقبة بن عامر: "تعلموا قبل الظانين" أي الذين يتكلمون بالظن والتخمين، فتجد الواحد يقول أظن أن الحكم في المسألة كذا، أنا أرى كذا وهو لا يستند على علم ولا كتاب منير بل على الظن والاحتمال، وهذا بسبب انتشار الجُهال بعد موت العلماء ونقص العلم.
والإفتاء في مسألة يحتاج إلى مفتي أو فقيه، فالمفتي هو الذي يمكنه استنباط حكم شرعي جديد في مسألة حديثة معاصرة استناداً على مصادر التشريع الإسلامي، أما الفقيه فهو العالم المقلد لفقه السابقين وأئمة الفقه الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله، و ما أكثر الفقهاء وما أقل المفتين الحق في زماننا، وقاعدة عامة يشترك فيها المفتي والفقيه أن يكون حافظاً لجميع الآيات والأحاديث والآثار الواردة عن الحادثة التي تتطلب منه الإفتاء أو الحكم في المسألة.
يعني مثلاً ليفتي شيخ في مسألة تتعلق بالطلاق لابد ضمن عدة شروط أخرى أن يكون ملماً حافظاً عالماً بكل الآيات والأحاديث النبوية والآثار والحوادث التي جاءت في موضوع الطلاق.
نفس الوضع في مسألة كشرب الخمر أو الحجاب أو الصيام أو الصلاة أو أو أو لابد أن يكون المفتي عالم بكل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار الواردة في تلك المسائل ليحكم فيها بناء على الأدلة النقلية ومقاصد الشريعة الإسلامية دون هوى ولا غرض دنيوي.
ومن أسباب اختلاف أئمة الفقه أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد أن كل واحد منهم كان في قطر ومدينة معينة وزمان مختلف ولم تصلهم جميع الأحاديث النبوية والآثار الواردة في مسألة محددة لذلك اختلفوا بناء على اختلاف ماوصل لكل منهم من أحاديث ففي وقتهم لم يكن علماء الحديث جمعوا السنة في كتب الصحيح بعد، وكذلك اختلفوا بناء على اختلافهم في فهم النصوص المتشابهة، لكنهم اتفقوا فيما لا يحتمل التأويل من أساسيات الدين وقواعده.
المهم أن العلماء في الماضي لم يهتموا كثيراً بأحاديث الفتن والملاحم لبعد الأحداث عنهم فلم يتكلموا فيها كثيراً لكن في زماننا هذا زمان ضياع العلم أصبح سفهاء الأحلام وحدثاء الأسنان يأخذون حديثاً نبوياً واحداً ويقيمون عليه فقه كامل خاص بهم ! ولو جمعوا كل الآيات والأحاديث والآثار الواردة في المسألة كما كان يفعل السابقين الأولين لوجدوا اختلافاً كبيراً عما وصلوا إليه من خرافات يحركها الهوى والسفاهة لا هدي النبي ولا الصحابة ولا من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
طبعاً مع ضرورة العلم بجميع جزئيات الدين الواردة في مسألة لابد من توافر عدة شروط أخرى في المفتي أو الفقيه منها العلم بلغة العرب والشعر والخلق الطيب كالأمانة والصدق وخشية الله وتهيب الفتوى والغنى المادي فلا ينبغي أن يكون المفتي صاحب حاجة دنيوية، لأنه قد يفتي ليتحصل على المال ويقضي حاجاته فيضل ويكذب على الناس، وينبغي أن يكون المفتي عفيف النفس زاهد في الدنيا إن كان غنياً أو فقيراً، حتى لا تكون فتاويه خادمة لحاجاته وشهواته فيُضيّع الناس.
يقول الإمام الشافعي:
"لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، وفيم أُنزل، ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة بصيراً بالشعر، وبما يحتاج إليه العلم والقرآن، ويستعمل مع هذا الإنصات وقلة الكلام .. ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأفكار، وتكون له قريحة (أي ملكة وموهبة) بعد هذا، فإن كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا، فله أن يتكلم في العلم ولا يُفتي".
يعني بالإضافة لكل هذه الشروط العلمية والخُلقية لابد من توافر منح ربانية من معرفة لغة الحوار وقبول المخالف والرد عليه بمنطقه بالحكمة والموعظة الحسنة وإقامة الحُجة، وأن يسمع قبل أن يتكلم وعدة ملكات ومواهب من الذكاء والقدرة على الفهم والحفظ واستنباط الاحكام حتى يصح للعالم أن يصير مُفتياً.
وقال الحسن البصري رحمه الله: "إنما الفقيه الزاهد فى الدنيا، الراغب فى الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الوَرِع الكافُّ عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لهم."."".
ومن مظاهر نقص العلم القول بالرأي واتباع الهوى دون استناد إلى دليل من قرآن أو سنة أو أثر أو أي من مصادر التشريع، أو أن يترك الناس الدليل ويتبعون آراءهم وأهواءهم، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: "إن أخوف ما أتخوف عليكم أن تؤثروا ما ترون على ما تعلمون وأن تضلوا وأنتم لا تشعرون".
و المعنى أي أن تصدق عينك المجردة وتتبع رأيك وهواك وتترك ما لديك من العلم والأدلة النقلية، فالعين لا ترى الكليات كلها وقد ترى القضية من زاوية دون أخرى، والعقل قاصر له حدود وقد يخدعك ويسحرك الدجالون والكذابون، فتقرب من الله بالإيمان واعتصم بالله فالمؤمن العالم التقي يرى بنور ربه فيتوافق هواه مع مراد الله وتبغض نفسه المعاصي فهذا الذي يستفتي قلبه فيفتيه بمراد الله ويهديه الله إلى طاعته، أما من هو قلبه مسوداً جاهلاً قاسياً كيف يستفتي قلبه ! إذا استفتاه أفتاه بمراد الشياطين والدجاجلة، قال تعالى: "فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ."، سورة الزمر الآية 22.
ومن مظاهر نقص العلم انشغال الناس بالمُباحات، فيبالغوا في التمتع بما حلل الله لهم فلا يكون لهم من الوقت والقدرة البدنية أو المادية ما يمكنهم من طلب العلم وتدارُسه، وفي هذا قال الله تعالى: "إنما أولادكم وأموالكم فتنة"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال"، رواه الترمذي.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم"، حديث صحيح رواه الإمام مسلم، وهذا الحديث الرائع فيه رد على كل من كفر عامة المسلمين ووضع لهم قواعد وأصول ليحكم عليهم بالإيمان ويدخلهم في أهله ومن خالف قاعدة عندهم فقد خرج من الإيمان وهذا من تلبيس ابليس على الجهال والسفهاء من الناس، فقد شهد النبي أن عموم الأمة لا تشرك بعده وهو حكم عام خُصص في أحاديث أخرى حيث قال النبي أننا نتبع سنن بني اسرائيل وسيلحق بعض أمته بعبدة الأوثان وهذا الحكم خاص ببعض الأمة في آخر الزمان، وإنما خشي النبي علينا جميعاً من الدنيا عامة ومن التنافس في طلب الدنيا الفانية فنهلك كما هلك من قبلنا، وهو حكم عام يخص كل زمان وهو واقع، فالأولى بهؤلاء أن يحذروا من فتنة الدنيا والمال.
وقال النبي في حديث شريف رواه الإمام مسلم: "فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"، فجمع النبي في هذا الحديث بين فتنتين فتنة الدنيا وطلبها والاستمتاع المبالغ بها ونسيان الآخرة، والافتتان بالنساء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وماوالاه، وعالم أو مُتعلم"، رواه الإمام الترمذي.
ومن مظاهر فتنة نقص العلم التكبر عن طلبه، فتجد الواحد ظن نفسه كبيراً في السن أو ذو مقام في المجتمع فيتكبر عن طلب العلم ممن هو أصغر منه وأفقه، أو تجد الواحد لا يحترم معلمه ويختبره ولا يوقره ويتكبر عليه ومتى تعلم منه ينقده ويظن نفسه أفضل منه وماكان العلماء السابقين كذلك وما كان الجرح والتعديل في الماضي كذلك بل ما يحدث اليوم بساحات السفهاء هو تجريح وتعمد الإذلال وتكبر وتصيد الأخطاء والزلات حتى يتعمد الواحد إهانة الآخر والتشنيع عليه وليس ما يحدث في زماننا بجرح ولا تعديل، ولا أمل فيمن هذه تصرفاته في طلب العلم أن يتعلم، قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
قف للمعلم وفه التبجيلا .. كاد المعلم أن يكون رسولا.
ومن مظاهر نقص العلم الزهد في طلبه، فلا يذهب الناس لدروس العلم، ويتركون الكتب، ولا يهتمون بالعلماء، فيصيروا جهالاً، قال الإمام الحافظ ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس: "العلم نور وإبليس يُحسن للإنسان إطفاء النور ليتمكن منه في الظلمة ولا ظُلمة كظلمة الجهل".
وفي رواية لأحمد والشيخين، عن ابن مسعود وأبى موسى رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل، ويُرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج والمرج وهو القتل ".
فبالطبع عند انتشار الجهل ورفع العلم تصير حياة الناس كالبهائم المتصارعة لا يخشون الله ولا يفقهون عاقبة ما يفعلون، وقد قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: "لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم".
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : "كيف بكم أيها الناس إذا طغى نساؤكم وفسق فتيانكم ؟ " . قالوا : يا رسول الله ، إن هذا لكائن ؟ قال : " نعم ، وأشد منه ، كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ ". قالوا : يا رسول الله ، إن هذا لكائن ؟ قال : " نعم ، وأشد منه ، كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفا والمعروف منكرا ؟ " . رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط.
وهذا ما هو واقع في زماننا وقد بينا ما تحصلنا عليه من أسباب فتنة نقص العلم وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخطورة نقص العلم، أنه إذا نزل الجهل ورُفع العلم لا يستطيع الناس تمييز العلماء من الجهال، ولا معرفة الصحيح من السقيم، ولا ادراك الحلال من الحرام فتقع الفتن، ويضل العباد وتصير أحوالهم هرجاً ومرجاً ويأتون بالعجائب والمناكير، ويصبح الحق باطلاً والمعروف منكراً وهذه هي أشد الفتن.
عن سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه سُئل: أيُ الفتن أشد ؟ قال: "أن يُعرض عليك الخير والشر، فلا تدري أيهما تتبع".
وعن أبي ميسرة قال: "تبقى رجرجة من الناس لا يعرفون حقا ولا ينكرون منكرا يتراكبون تراكب الدواب والأنعام" ، رواه ابن أبي شيبة في مسنده.
وهذا من الجهل فالجاهل لا يميز بين الحق والباطل ولا بين الحلال والحرام ولا بين الطيب والخبيث فهؤلاء الجهال يعيشون حياتهم الدنيا مثل الدواب والأنعام التي تسرح في المراعي والغابات يتقاتلون ويتناكحون ويأكلون ويشربون ويتصارعون على الشهوات بل هم أضل سبيلا.
يقول الله تعالى: "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ" .. فقصر الله الخاشين من الله على العلماء العارفين بالله، ولا يعرف ربه من لا يعرف نفسه .. ومن لا يعرف نفسه هو كالدواب بل أضل سبيلا.
فالدواب تعرف قدر نفسها وتعرف قدر ربها لذا رفضت تحمل الأمانة وأشفقت منها سائر المخلوقات .. قال تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" .. فليس شئ مخلوق أجهل منك أيها الإنسان !!
فالإنسان جهول جهول بنفسه وجهول بربه فذرات جسده كلها تسبح بحمد ربها بينما نفسه كافرة متمردة !! يوم القيامة تشهد عليه يداه وقدماه وعيناه وأذناه وسائر حواسه وذراته وهو يستعين بها في دنياه على معصية خالقها وخالقه ! خرج من بطن أمه لا يفقه شيئا .. مخلوق أجوف .. لا يستطيع الاستغناء عن التطهر والتنظف وإلا تجمعت عليه الحشرات والقاذورات والكائنات الدقيقة التي حتى لا يراها بعينه المجردة ! كائن ضعيف .. نوبة وجع بالرأس ترهقه وتلزمه الفراش لا يدري بأي أرض يموت وكيف تتقلب به الأيام والسنين .. ولكن الإنسان ظالم لنفسه بجهله قدرها وضعفها وهوانها وخستها ظالم لنفسه باختياره طريق الهالكين .. لو نظر لنفسه في الكون العظيم والمجرات وفي مجموع المخلوقات الأرضية فضلاً عن السماوية والغيبية لأدرك أنه لا يساوي شئ في ملك ربه وأن خلق السماوات والأرض أكبر وأعظم .. وأن آيات الله في كونه أعظم من آيات الله في بني آدم .
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق .. ولكن ذلك الحق لا يتبين إلا لمن يرى ومن يرى يلزمه بصيرة لا بصر .. والبصيرة لا توهب إلا لمن يخشى ربه .. والجهول عديم البصيرة لا يخشى الله فهو لا يعرفه ولا حتى يعرف نفسه ... إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ .. ولا عالم إلا من خشي ربه وعرف قدر نفسه وعرف أن قدره لا شئ في ملك الكبير المتعال .. وحين تعرف قدر نفسك الحقيقي وتقر بالخضوع والاستسلام طوعاً وكرهاً للمصور خالقك وخالقها كما أسلمت سائر المخلوقات سوى نفسك .. ينعم الله عليك بالتعرف عليه وعلى آياته في نفسك وفي الآفاق .. وتخرج من جموع الجاهلين إلى عالم النور وينعم الله عليك بالبصيرة بعد ضلال وعمى وظلمات بعضها فوق بعض .. فمن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .. وبهذا النور تفهم القرآن كما أُنزل وتسلم بما فيه وتسلم بتبيين النبي له .. فالعارف بالله الخاشع له مستسلم لقضائه راض بحكمه .. قال تعالى: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا" وذلك النور لن تصل إليه وحدك ولا بملايين الكتب والشهادات والقواعد والشيوخ فبدون هذه الخشية والانكسار لله والإيمان والإقرار بالعبودية له ستقرأ وتفهم القرآن على غير تأويله وغير مراده ويطمس الله على بصرك وقلبك وتعمى بصيرتك .. وليوفقك الله لهذا يلزمك قبول
مواضيع مماثلة
» فتنة الدهيماء
» "الطائفية" فتنة للعبث بأمن مصر
» ظاهرة الموت المفاجئ بين العلم والإيمان
» الإنسان بين الخرافه و العلم
» للباحثين عن العلم و المعرفه
» "الطائفية" فتنة للعبث بأمن مصر
» ظاهرة الموت المفاجئ بين العلم والإيمان
» الإنسان بين الخرافه و العلم
» للباحثين عن العلم و المعرفه
صفحة 2 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى